
قيم المجتمع في زمن العولمة… صراع الهوية والأصالة
بقلم: حسام النوام
لم يعد المجتمع المعاصر يعيش داخل حدوده الضيقة كما كان الحال قبل عقود قليلة، بل أصبح جزءًا من فضاء مفتوح تسيطر عليه العولمة، بما تحمله من تدفق المعلومات والمنتجات والأفكار بلا قيود. وبقدر ما منحتنا هذه العولمة فرصًا للتواصل والانفتاح، فإنها طرحت في الوقت نفسه أسئلة شائكة تتعلق بالهوية والقيم، وكيف يمكن للشعوب أن تحافظ على أصالتها وسط هذا الطوفان الجارف.
العولمة… نعمة أم نقمة؟
العولمة ليست مفهومًا مجردًا، بل واقع ملموس نعيشه يوميًا:
حين يجلس الشاب في حي شعبي ليتابع فيلمًا أميركيًا على منصة رقمية.
أو حين ترتدي الفتاة زيًا غربيًا وتعرضه عبر وسائل التواصل بحثًا عن الإعجاب.
أو حين تتحول المائدة إلى خليط من أطعمة مستوردة ومذاقات محلية.
هذه المظاهر قد تبدو عادية، لكنها في جوهرها تعكس كيف تتسلل العولمة إلى تفاصيل حياتنا، فتغيّر أنماط الاستهلاك، وتعيد تشكيل أنماط التفكير، بل وتؤثر في ملامح الثقافة الشعبية ذاتها.
وهنا يظهر السؤال الجوهري: هل نحن أمام فرصة لتجديد المجتمع وتطويره، أم أمام تهديد حقيقي يذيب خصوصيتنا الثقافية في بحر من التقليد والتشابه؟
الهوية في مواجهة الرياح
الهوية ليست مجرد شعارات أو أغنيات وطنية، بل هي مزيج من اللغة والدين والعادات والتقاليد والقيم الأخلاقية التي تميز مجتمعًا عن آخر. والخطر الأكبر الذي تطرحه العولمة يتمثل في تآكل هذه الهوية، حيث يتعرض المجتمع لإغراءات مادية وثقافية قد تضعف تماسكه الداخلي.
لقد أصبح الشاب يقيس نجاحه بعدد المتابعين لا بإنجازه العلمي، وأصبحت بعض الأسر تفتخر بمدارس أجنبية لأبنائها أكثر من اعتزازها بلغتها الأم، وصار كثيرون يخلطون بين التقدم والتقليد الأعمى، وكأن الأصالة باتت عبئًا لا ميزة.
لكن الحقيقة أن أي مجتمع يفقد هويته، يفقد معها القدرة على الإبداع والتطور؛ لأن الهوية هي الإطار الذي يمنح للأفكار أصالتها، وللمشاريع جذورها، وللثقافة روحها.
الأصالة ليست عدوًا للتجديد
من الأخطاء الشائعة أن ننظر للأصالة باعتبارها جمودًا أو تقوقعًا، وأن نعتبر كل ما يأتي من الخارج تقدمًا يستحق التقليد. فالأصالة الحقيقية هي القدرة على حماية القيم المتجذرة، مع الانفتاح الواعي على ما يفيد المجتمع من دون أن يلغيه.
لقد أثبت التاريخ أن الأمم القادرة على الجمع بين الأصالة والتجديد هي وحدها التي تواصلت حضارتها. فاليابان مثلًا، انفتحت على التكنولوجيا الغربية لكنها حافظت على لغتها وتقاليدها. وكذلك الصين، دخلت اقتصاد السوق لكنها ما زالت تفتخر بتراثها وثقافتها الخاصة.
إذن المطلوب ليس الانغلاق على الذات، ولا الذوبان في الآخر، بل إيجاد معادلة توازن تحمي الهوية وتسمح بالتطور.
الإعلام والتكنولوجيا… سلاح ذو حدين
لا يمكن أن نتحدث عن العولمة دون الإشارة إلى الدور الذي يلعبه الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. فهي الأداة الأسرع في نقل الأفكار والاتجاهات، وهي أيضًا النافذة التي تفتح على ثقافات العالم.
لكن ما يغيب عن الكثيرين هو أن هذه الأدوات قد تتحول إلى قوة غزو ناعمة، تفرض قيمًا جديدة بشكل تدريجي حتى من دون وعي. حين يتابع ملايين الشباب محتوى مكررًا يروّج لأنماط حياة بعيدة عن بيئتهم، فإن هذا يخلق حالة من “الاغتراب الثقافي”، تجعل الفرد يعيش جسديًا في مجتمعه، لكن وجدانيًا في مكان آخر.
وهنا تبرز الحاجة إلى إعلام وطني قوي، قادر على تقديم محتوى معاصر يجذب الشباب، ويحمي القيم دون أن يغلق الباب أمام الحداثة.
دور الأسرة والمدرسة
المجتمع لا يُصان بالشعارات، بل بالتربية اليومية. فالأسرة هي الحصن الأول الذي يغرس قيم الانتماء والاعتزاز بالهوية. والمدرسة هي الساحة التي يجب أن توازن بين تعليم العلوم الحديثة وترسيخ الثقافة الوطنية.
إن أزمة الهوية لا تُحل بالقوانين فقط، بل بالقدوة اليومية: الأب الذي يفتخر بلغته ويشجع أبناءه على التحدث بها، والمعلم الذي يشرح دروسه بروح الانتماء، والإعلامي الذي يوازن بين الانفتاح والوعي. كلها ممارسات صغيرة لكنها تصنع الفارق في النهاية.
مجتمع بين الماضي والمستقبل
العولمة قدر لا مفر منه، لكن كيفية التعامل معها خيار بأيدينا. فإما أن نترك أنفسنا نذوب في ثقافة مستوردة، فنفقد أصالتنا ونصبح نسخة مكررة بلا روح، وإما أن نتمسك بجذورنا وننفتح بعقل ناقد على ما ينفعنا ويضيف لنا.
إن المجتمعات التي تحافظ على قيمها لا تعيش في الماضي، بل تضمن لنفسها مستقبلًا متوازنًا، يجمع بين التقدم والهوية، وبين الأصالة والحداثة.
فالأمم لا تُقاس بما تستورده من مظاهر، بل بما تحافظ عليه من قيم، وما تزرعه في أبنائها من وعي وانتماء.