
“المتصوفة بين المآخذ والمقاصد” .. !!بقلم :د. محمد المنشاوي..
من مآخذ البعض لاسيما “العقليين” منهم على المتصوفة والتصوف أنه “أرستقراطية” تتنافى مع روح الإسلام ، وبالتالي ، فهو ليس فى متناول عموم المسلمين ..

ولأنه كذلك ، – كما يرى هؤلاء – فهو تكليف بما لا يُطاق ، والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها ..
والحقيقة أن القول بأن التصوف أرستقراطية ، هو فى واقع الأمر حقٌ أُريد به باطل !! ..ولكن لماذا ؟؟..
فالأرستقراطية فى أبسط صورها ومعانيها تعنى التميز والإختلاف ، والإستئثار بما قد لا يكون متاحًا للغالبية العظمى والسواد الأعظم من الناس والتمَايُز عن الآخرين ، فى حين أن الديمقراطية تعنى المساواة والتكافؤ بين الجميع ..
غير أن التصوف الإسلامي الحقيقي قد إكتسب تَمَيْزه وتفرُده ، ليس لرفاهية مُريديه وأصحابه ، بل لكَوْنِه طريقاً شاقاً وصعبًا ووعر المسلك لا تقدر عليه إلا القلة فقط دون الكثرة “وقليلٌ من عبادى الشكور” (آية١٣- سبأ ) ، وبالتالى كان مدعاة للتهجم عليه من البعض الذى يرونه أرستقراطية !! ..
فهذه الأرستقراطية ليست أرستقراطية الظاهر والمظاهر والتفاخر بل أرستقراطية الباطن والسرائر ، وليست أرستقراطية “الكم” بل أرستقراطية “الكَيّف” ، وبالتالى فطبيعة الأمور تأبى إلا أن يكون التصوف فعلًا “أرستقراطية ” ، لصعوبة سلوك عموم الناس طريقه !!..
فقد تَخَلْق الصوفية الحقة بأخلاق الله ورسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم ، وإتفق سلوكهم مع تلك المُثُل التى يدعو إليها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، كما لم تكن عبادتهم مجرد حركات ظاهرة فقط بل إتفق ظاهرهم مع بواطنهم فقاموا على حقوق الله وآثروا جناب الله .. فمن يتحمل ذلك ؟؟..

أنه نظام الصفوة المختارة الذين وهبهم الله حساً مرهفًا ، وذكاءً حادًا وفطرة روحانية وصفاءً يكاد يقرب من صفاء الملائكة ، وطبيعة بشرية تكاد تكون مخلوقة من نور ..
ذلك لأن التصوف الحقيقي هو ببساطة تزكية للنفس ، وتزكية النفس طريق صعب المرتقى ، يسعى صاحبها الى تركيز الإنتباه فى الله وهذا ليس بالأمر السهل على المرء ، ولذلك كان التصوف الحقيقي طريقًا خاصًا لا تسلكه ولا تقدر عليه إلا طائفة قليلة من الناس “وقليلٌ من عبادى الشكور” (سبأ)..
وإذا نظرنا إلى الشروط الواجب توافرها فى السالك لطريق الله والمنهج الذى يلزم به نفسه ، علمنا أن النفوس الجديرة بسلوك هذا الطريق يندر شيوعها بين الكثير من الناس ، ومن هنا يعترض خصوم التصوف قائلين : هو إذن “أرستقراطية” !! ..
وعلى حد قول الإمام محمد الغزالي إذا كانت الديموقراطية حتى معناها التساوى فى كل شىء فهى أسطورة من الأساطير ، فالتساوى لا يوجد فى عالم الطبيعة بحال من الأحوال ، وإنه لا يوجد بين الحيوانات فى الغاب ، ولا يوجد بين بنى آدم فى المدن أو فى القرى !! ..
ثم إن الله لم يسوِ بين الناس فى ألوانهم أو قوتهم الجسمانية أو ذكائهم أو دهائهم ومكرههم ولا فى حظوظهم وأرزاقهم..
فهناك الطبقات فى كل المجتمعات سواء كانت جمهوريات أو ممالك أو إمارات ، وأفلاطون وهو فيلسوف كبير ، قسم جمهوريته المثالية إلى طبقات ، بحسب إستعداد كل طائفة من الطوائف ..
ففى جمهوريته طائفة “الإنتاج” وهى طائفة المعدة الشرهة والشهوات الغالبة ، وطائفة “الجند” ذات العاطفة القوية ، وطائفة “القادة” معدن العقل والحكمة والبصيرة والإشراق..
ثم إن الناس معادن على حد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعادنهم ثابتةً لا تتغير فخيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فُقُهوا ، ففيهم المعدن الذهبى وفيهم الفضى وفيهم غير ذلك ..
وأتذكر هنا قولًا لأحد أكابر أهل الله لأحد مريديه عند مصافحته بعد فترة غياب : أولادنا كالذهب ما أن تمسح ما علق به من تراب حتى يعود إلى بريقه ولمعانه ، وهذه تربية روحية !! ..
والله سبحانه وتعالى يذكر تمايز الناس فيما يُنعم عليهم به ، ويبين أن منهم الأنبياء ومنهم الأولياء ومنهم الصديقون والشهداء وغير ذلك : “ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أؤلئك رفيقاً ” (النساء) ..
فالمتصوفة يستشعرون لذة القرب فى حبهم لله وبالله ولأجل الله ، تلك اللذة يفتخرون بها وتجعلهم متميزين عن دونهم ، وتهتز لها خلجات أجسادهم عند ذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلك اللذة لا أحدٌ من غير السالكين يستشعرها حتى لو كان من ملوك الدنيا ، ولذلك يقولون: لو علم الملوك وأولاد الملوك ما لدينا من لذةٍ لحاربونا عليها بالسيوف ” ..
وتتمثل أرستقراطية المتصوفة الحقيقيين فى أنهم أهل مكارم الأخلاق ، ولهذا يعتبرون التصوف خُلُق ، ومَنْ زاد عليك فى الأخلاق زاد عليك فى التصوف ..
ويكفى الصوفية شرفًا أن نبى الله موسى عليه السلام سافر سفرة طويلة لكى يلتقى بالعبد الصالح الخضر ليتعلم منه ما أفاض الله عليه من العلم اللدنى الذى هو علم الحقيقة لدى الصوفية الى جانب الشريعة ..
والحب هو أساس التصوف إنطلاقاً من أن الحب أساس نشأة الكون ، وهو القاسم المشترك بين مفردات الكون وصنعةَ الله للمخلوقات وأساس عملها ووظيفتها فى هذا الكون والحكمة من وجودها ..
ولهذا كان التصوف الحقيقي فلسفةً تجمع بين أرستقراطية الأخلاق وديموقراطية السلوك …
د. محمد المنشاوي..