
كابول “الحدود الملتهبة” هل تنفجر الحرب الخفية بين أفغانستان وباكستان؟
تحليل للوضع القائم استراتيجياً
كتب أحمد سمير
منذ مطلع الشهر الجاري عادت نيران الإشتبكات لتشتعل على الحدود الأفغانية- الباكستانية، في واحدة من أكثر المناطق حساسية بجنوب آسيا، لم يكن هذا التصعيد مفاجئاً على وجه الإطلاق.
فالعلاقات بين كابول وإسلام آباد تتأرجح منذ عقود كثيرة بين التهدئة والتوتر، لتتحول اليوم إلى إختبار حقيقي لتوازن القوى في منطقة تعج بالتعقيدات الأمنية والأيديولوجية.
جذور النزاع لم تكن مستحدثة بل تعود إلى إتفاقية “دوراند” التي قد وُقعت عام 1893 بين أفغانستان والإدارة البريطانية في الهند، وقد رسمت هذه الإتفاقية خطاً حدودياً بطول 2.640 كم، يفصل بين الأراضي القبلية البشتونية من دون النظر إلى الروابط العرقية والقبلية العميقة.
بعد استقلال باكستان في عام 1947 رفضت أفغانستان الاعتراف بهذا الخط كحدود دولية شرعية، معتبرة إياه تقسيم استعماري غير عادل. ومنذ ذلك الحين أصبح “خط دوراند” مصدر نزاع بين الدولتين يشتعل كلما تبدلت موازين القوى أو ظهرت تحالفات جديدة في المنطقة.
الخلافات بين الدولتين لم تقتصر على التاريخ فقط بل هناك خلفيات سياسية وأمنية.
طلبت باكستان في تسعينيات القرن الماضي، دعم طالبان كي تحقق عمق استراتيجي غربي في مواجهة الهند، لكنها اليوم تجد نفسها في مواجهة تنظيم أكبر وأكثر تشدداً من التنظيم نفسه “ttp”، والذي ينفذ هجمات داخل الأراضي الباكستانية إنطلاقاً من الجانب الأفغاني.
في المقابل تتهم طالبان الأفغانية باكستان بالتدخل في شؤونها الداخلية وتقوم بتنفيذ هجمات جوية داخل أراضيها من دون تنسيق مسبق بين الطرفين، الأمر الذي يجعل العلاقة بين الجارين مزيج من الحذر والعداء.
تطورات ميدانية قد شهدتها الأسابيع الماضية
فقد شهدت عدة مناطق منها ” تُرخم وسبين بولدك ” الحدوديتين عدد من التطورات الميدانية، حين أقامت طالبان عددا من نقاط التفتيش قرب معبر تُرخم، ما اعتبرته باكستان تجاوزا للخط الحدودي ردت عليه بإطلاق نار تحذيري في البداية، تطور إلى تبادل كثيف للقصف المدفعي، أسفر عن سقوط قتلى وجرحى بين الطرفين.
هذا ووفقاً لِما أكدته وسائل إعلام باكستانية عن قصف بطائرات مسيرة قد استهدفت مواقع لطالبان داخل محافظة “ننغرهار”، بينما نشرت وزارة الدفاع الأفغانية بياناً رسميا “حذرت فيه من أن أي إنتهاك جديد لسيادة أفغانستان سيواجه برد مباشر”.
من جانبها قامت باكستان بإغلاق معابر تُورخم وسبين بولدك، الأمر الذي أدى إلى شلل مؤقت في حركة التبادل التجاري بين البلدين، وإرتفاع في أسعار المواد الغذائية والوقود ببعض المناطق الحدودية.
ردود الفعل الدولية والإقليمية
وبهءا الخصوص، دعت الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، الطرفين إلى التهدئة وفتح قنوات للحوار مرة أخرى.
وبهذا الخصوص، أبدت الصين قلقها البالغ من جراء هذا التصعيد بين الدولتين، معتبرة إياه تهديد لاستثمارتها في جنوب القارة الأسيوية، خاصة أنها تمتلك أكبر مشاريع اقتصادية داخل باكستان.
أما إيران وروسيا، فكلاهما يتعامل مع الأزمة بحذر شديد خوفاً من أن يؤدي توسع النزاع بين الطرفين إلى نزوح جديد لجماعات متطرفة في المنطقة.
تحليل للوضع القائم استراتيجياً
أظهرت الأزمة الحالية أن النزاع ليس مجرد خلاف حدودي بين الطرفين، بل هو نزاع على النفوذ والشرعية.
فيما ترى باكستان أن مسألة أمن الحدود ضرورية في ظل نمو نشاطات لجماعات متطرفة ومسلحة.
وترى طالبان وجوب فرض السيطرة على المعابر، هي رسالة توجهها الى الداخل الأفغاني لكونها “تحمي السيادة الأفغانية” وكونها تستحق الاستمرار في إدارة البلاد، ورسالة إلى الخارج بأن هذه الحدود ليست تابعة لباكستان كما يروج البعض.
أخطر ما في الأمر هو افتقار الطرفين إلى آلية تنسيق على جميع المستويات، سواء العسكرية أو السياسية، عدم وجود لجنة حدودية فعالة أو إتفاقيات أمنية واضحة بين الطرفين منذ عودة طالبان للحكم في 2021.
السيناريوات المحتملة
نستطيع أن نتحدث عن ثلاثة سيناريوات من المتوقع حدوثهم:
أولهم: التهدئة المشروطة “ومن الممكن أن تحدث على المدى القصير، ثم تعود الأمور كما كانت بوساطة قطرية- صينية، قد يتفق الطرفان على إعادة فتح المعابر التجارية ووقف إطلاق النار.
استمرار متقطع للإشتباكات المحدودة على الحدود بين الدولتين من دون إنزلاق كامل في هاوية الحرب الكاملة. يهدف الطرفان إلى الحفاظ على الاستقرار الداخلي، خاصة في ظل الأزمات الإقتصادية السيئة التي تمر بالدولتين.
ثانيهم: تصعيد عسكري محدود، فاحتمالية قيام باكستان بتنفيذ ضربات جديدة ضد مواقع طالبان معتبره إياها ملاذا لتحريك طالبان باكستان داخل أفغانستان ; رد طالبان سيكون بالمثل عبر هجمات حدودية أو دعم فصائل المعارضة الباكستانية في بلوشستان ; من الممكن أن يؤدي هذا السيناريو إلي تجميد العلاقات الدبلوماسية ; وزيادة التواجد الإيراني والصيني في محاولة لتهدئة الأوضاع بين كابول وإسلام أباد .
ثالثهم: السيناريو الأسواء محتمل وقوع إنهيار كامل للحوار بين الدولتين، وامتداد النزاع إلى مناطق قبلية أوسع مع تزايد العمليات الإرهابية داخل باكستان، وتدخل أطراف إقليمية مثل الهند على خط التوتر للاستثمار في الموقف.
في حالة حدوث هذا السيناريو، قد تتحول المنطقة الحدودية بين الدولتين إلى ساحة صراع كبيرة ودائمة، ما يهدد الاستقرار الإقليمي بأكمله.
وفي نهاية الأمر، يظل النزاع الحدودي بين كابول وإسلام أباد نموزجا كلاسيكيا لصراعات ما بعد الاستعمار، حيث تداخلت الحدود بالهوية والسيادة بالتحالفات.
ومع غياب الثقة وستمرار لمسلسل البقاء للأقوى ستظل احتمالية التصعيد بين الدولتين قائمة، ما لم تُفتح قنوات للحوار الإقليمي برعاية الأمم المتحدة، أو منظمة شينغهاي للتعاون.
تقف المنطقة اليوم على مفترق طُرق إما التسوية التي تحفظ استقرار الجنوب الآسيوي، أو فتح صراع جديد يُعيد رسم خرائط النفوذ مرة أخرى، في واحدة من أكثر بقاع العالم اضطراباً.